صور


مدونة
مدونة  كاتب في صمت
كريم لابان
كريم لابان
كاتب في صمت
الخميس، 11 مايو 2017

حلاوة البداية ومرارة النهاية


سحر البدايات وأحجية النهايات أن تبدأ بالشيء وتعقد النية على فعله، لطالما كان له بريقه وألقه الذي يخطف الألباب ويسلب العيون. متعثرة كانت البدايات أو متوازنة، ففيها الجاذبية التي لا تنضب، والطاقة التي تلفت انتباهك، والزخم الذي يبلغ مبلغه حتى تكاد تظن أنها دائمة مستديمة. البدايات عادة ما تكون أنيقة كعريس ليلة زفافه، وهادئة كنسيم يهب على شاطئ بحر ملامساً وجنتي جميلة تتمطى دلالاً على حوافه، وواثقة كوثبة فهد خلف فريسة في برية، ومفعمة بالحيوية كضجيج راقصين تحت ضوء قمر يصارع على الاكتمال ليصبح بدراً، وربما مباغتة فجائية تأتيك من حيث لا تدري له كنهاً أو وصفاً كحال حب عزف على أوتار قلب من النظرة الأولى. يراها البعض هينة، والبعض الآخر صعبة خوفاً من حماقات تالية تعقبها. فما يترتب عليها، سنعيش معه ونصادقه ونتسامر مع فرحها وحزنها كلما دقت الوحدة أبوابها، وانطلق الذهن في أنانية جامحة يحاكي ذاته. فالخوف يلجم الهمة، ويسكت الصوت الداخلي الذي يقاتل ليخرج علناً على الملأ، ويقيّد الفكر في مساحات جمّة تنازع المرء على اتساعها. فكل بداية لها نهاية، وكل حكاية لا بد لها من خاتمة ما، وكل رواية ستحتوي صفحاتها الأخيرة على فك لحبكة كانت تغزلها رويداً رويداً، والبطل يختبر القمم والوديان ليصل ضوء شمس أو عتمة ليل في آخر النفق. ومن حجم الغموض الذي تنطوي عليه النهايات، ارتأى كثيرهم السخرية منها. فالضوء الذي تقاوم اقتناءه ربما هو إعلان لقدوم قطار يقصدك من الجهة المقابلة عازماً بكل جد على الإطاحة برايات عزك. إعلان وهناك ما يقال في بدايات ونهايات العلاقات الإنسانية. في البدايات، كلهم رائعون. أما النهايات، فيها تتمايز معادن البشر! فحقيقة المعدن تظهر عندما تسدل ستائر الحلقة الأخيرة، لا عندما تعلن شارة البدء. منهم من سيسحرك وهجه وإن كان راحلاً، ومنهم من ستندم على معرفته وإن كان باقياً. فأسوأ المراحل هي عندما يتنافس الطرفان على احتلال منزلة (الأكثر دناءة)، وكلاهما خاسر. هي حرب لا هوية لها ولا رسالة فيها، وإن تزين لأحدهما نشوة النصر. هما يتنافسان في امتحان القدرة على العيش في الوحل والقذارة ضاربين بعرض الحائط الاعتبارات جميعها. في البدايات، الأقنعة تغمر الوجوه. أما النهايات، هي مرحلة نزع الأقنعة بعد أن فطن أن الفأس اقترب من قطع الأعناق، ونصل السيف يغازل موطن حياته. متى تكون البداية؟! علّها مبكرة تكون أياماً، ومتأخرة أياماً أُخر. فمن بدأ مبكراً، ربما يطرق الوهن باب همته في المنتصف، ويدفعه إلى ترك الأمر كله استسلاماً للحياة وشؤونها. ومن بدأ متأخراً، قد يقطع حبل النهاية قبل أقران كثر. وهنالك طيف آخر من بشر من ينفض عن خططه قبل أمتار أخيرة من مرأى النهاية المنشودة. بعض البدايات متواضعة ولا تكشف عن الخير الوفير الذي سيتم اقتناصه، ولكن فاعله امتلك بعد نظر زرقاء اليمامة، وعزيمة لا تخبو مع جري عقارب الساعة اليدوية وتساقط ذرات الرمل في الساعة الرملية. فعندما تسابق الأرنب والسلحفاة في القصة المعروفة إياها، ضحكت السلحفاة ملء فيها في النهاية، وبكى الأرنب ندماً على ما قد فات. فالزمن عامل يفقد جزءاً من أهميته، إن لازمه تصميم ينطح الجبال طولاً وعظمة. الرهان يكون على الوقت المتبقي لا الماضي، وما انصرف من ساعات هو امتحان لقوة إرادة صاحبها. فالرسام الشهير “فان جوخ” أنجز ثمانمائة لوحة زيتية في الخمس سنوات الأخيرة من حياته، وكانت هي ما خلد ذكره في تاريخ الأنام. وشاعر الخضراء “أبو القاسم الشابي” توفي في مقتبل شبابه، إلا أنه أخذ المجد من أنياب الدنيا رغم قصر الوقت الذي أتيح له. مات وبقي ذكره كالنسر فوق القمة الشماء، يرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً بالسحب والأمطار والأنواء. النهايات لا بد وأن تكون نفير بوق يقرع، وأن تواصل اليد خطّ بداية أخرى جديدة. النهايات تلد بدايات، كما البدايات تسفر عن نهايات. فالباب الذي يغلق، يقابله أبواب -لا عد لها ولا حصر- مقابضها تنتظر الدوران من مستغل الفرصة. في اليوم الذي مات فيه “مايكل أنجلو”، ولد “غاليليو”. وفي اليوم الذي مات فيه “غاليليو”، ولد “نيوتن”. أما اليوم الذي مات فيه “نيوتن”، لم يتم تمييز من ولد فيه من نوابغ. وكأن النهايات تنبثق عن شمس ثانية يطلع نورها على من وعى وأدرك. نهايات هذا العام قد أزفت، وبدايات عام جديد قد اقتربت، ولعل الرهان على ما بقي
تحميل

click to begin

1.2MB .zip

اعلان 1
اعلان 2
عربي باي